2 - التوبة بين الصفات و الاثار
ما أروع كلمة الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)وهو ينقلها عن رب العزة، وما أعمق مدلولها ، وأبعد غورها، وأرحب آفاقها، وأوسع مداراتها: (لااله إلاّ الله حصني فمن دخل حصني أمن عذابي)(5).
فلو عرف الانسان المسلم معنى كلمة «لا اله إلاّ الله» على حقيقتها، و استوعب مفاهيمها ومحتوياتها، وأدرك أثرها في حياته و ارتباط وجوده بها، وتعلق عالمه بحقيقة انطباقها، لادرك ان كل شيء في هذا الوجود قائم «بلا اله إلاّ الله» ومتجه إليه.
ويجهل الكثير منا، وحتّى البعض من اولئك الذين يحفظون اسماء الله تباركت أسماؤه، ويعدِّدون صفاته، وأفعاله، ويدرسون علم التوحيد بنصوصه و قواعده، ويتحدثون عن اشراقات ذات الله، وفيوضات رحمته، وتعلق الوجود بقدرته ... حتّى اولئك، يغيب على الكثير منهم ، الكثير من حقائق الاثار المتجلية عن كلمة لا اله إلاّ الله.
فلو انفتحت أبعاد النفس على هذه الافاق الرحبة، واستوعبت العقول ما تحمل كلمة التوحيد من معان وصفات تختص بها الذات الالهية المقدسة، وعاشت في ظلال اشعتها، وانسياب أنوارها، لادرك الانسان أنه يعيش في ظل آثار هذه الصفات، وأنها حقائق تتجلى في عالم الوجود، و أنها ذات صلة بكيان الانسان ووجوده، ولادرك لكل صفة ربانية متجلية فيوضات تسد ثغرة في نفس الانسان، وتجسد أملا في حياته، لذا فان السعادة ستغمره، وسيشعر بمعنى الوجود كاملا لو أنه عاش يستوحي فيوضاتها، ويملاثغرات نفسه من آثارها.
ويهمنا في هذا البحث ان ندرس التوبة كأثر من آثار تجليات هذه الصفات الربانية في حياتنا.
لان لكل جانب من جوانب الوجود - بمافيه الوجود الانساني - ارتباطاً بصفة من الصفات الالهية المقدسة، ولانه الاثر المتجلي لهذه الصفات و الاسماء الحسنى.
وان كل ما في الوجود، من قدرة، وحكمة، وعلم، وعدل، ورحمة، وعطف، وقوة... الخ إنْ هو إلاّ ظل مفاض من الكمال الالهي المطلق، و إن تجليات هذا الكمال هي سر تقوّم العالم ومصدر وجوده، وان الوجود قبس من فيضه السرمدي المعطاء.
وقد تحدث القرآن الكريم عن صفات إلهية كثيرة، وصف الله سبحانه بها نفسه وعظم ذاته... نستعرض منها ما يرتبط بموضوع التوبة، لان التوبة أحد الاثار المتجلية للصفات الالهية الظاهرة في حياة الانسان.
والتوبة حسب منطق التوحيد تأتي كأثر لابد من تجليه وتحققه في نظام الخلق ، ما زال خالقه متصفاً بصفات لابد وان تترشح من جوانبها فيوضات الخير، وهذه الصفات هي:-
أولاً: لقد وصف الله سبحانه نفسه بالحلم، وجاءت صفة الحلم في أغلب الموارد القرآنية مقرونة بالمغفرة أثر من آثار الحلم، وصفة لازمة لها، إذ لايمكن أن تصدر المغفرة إلاّ من حليم، ولا يكون الحليم إلاّ غفورا.
فقد وردت لفظة حليم في القرآن الكريم في أحد عشر موضعا،في تسع سورمن القرآن، اقترنت فيها صفة الحلم بالمغفرة ست مرات،واقترنت الخمس الباقية منها بصفة الغني والعلم والشكر.
والحلم بالنسبة للانسان هو ضبط النفس عن الغضب، وتحقق طول الاناة عنده، أما بالنسبة لله سبحانه، فهو إمهال الانسان، و تأجيل العقوبة، وعدم التعجيل بها، واعطاؤه المدد الكافي لمراجعة نفسه، وامهاله للعودة والرجوع.
والمغفرة: هي المحو والتغطية والستر و الصيانة من الدنس بصورة عامة.
اما المغفرة من الله سبحانه، فهي ان يطهر عباده ويصونهم من العذاب، ويمحو عنهم سيئاتهم، ويستر عليهم ذنوبهم و عيوبهم، فلا يفضحهم; قال تعالى:
(لا يُؤاخِذُكُم اللهُ باللَّغْوِ في أيْمانِكُمْ وَلكنْ يُؤاخِذُكُم بما كَسَبَتْ قلُوبُكُم واللهُ غفورٌ حَليم). (البقرة/ 225)
(... واعلموا أنَّ اللهَ يَعلمُ مافي أنفُسِكُم فاحْذَروهُ واعلموا انّ اللهَ غفورٌ حَليم).(البقرة/ 235)
فاتصاف الله سبحانه بعلم ما في أنفس الناس من خير و شر، وعدم فضحه لهم، بل على العكس من ذلك، فانه يستر عليهم، ويعطيهم فرصة للعودة والرجوع الى الحق، ان اتصاف الله سبحانه بهذه الصفة هو الذي نسميه (حلما).
واتصافه بالحلم، والمغفرة، والستر، قد فتح لعباده باب التوبة; لانه تعالى لم يعاجلهم بالعقوبة، بل وسعهم بحلمه، ووعدهم بمحو الخطيئة وبالتسامح; بعظيم مغفرته، وواسع رحمته.
ثانياً: اتصافه سبحانه بالعفو والقدرة، فاتصافه بالقدرة أساس يبتني عليه العفو، وتنتج عنه التوبة، لانه لايعفو إلاّ المقتدر، ولايهب إلاّ المالك.
ولو تابعنا وصف القرآن لله سبحانه،ونسبة صفة العفو اليه لوجدنا:أن اتصافه بالعفو يأتي في أغلب الاحوال مقرونا بالمغفرة، وأحيانا اخرى يأتي عفوه مرتبطا بالحلم والقدرة; قال تعالى:
(...ولَقدْ عفا اللهُ عنهمْ إنَّ اللهَ غَفُورٌ حَليم)(آل عمران/ 155)
وقال
إنْ تُبْدُوا خيرا او تُخفُوهُ أو تَعفوا عن سُوء فإنَّ اللهَ كان عَفُوَّا قديرا).(النساء/ 149)
وقال تعالى
فاولئكَ عسى اللهُ أنْ يَعفُوَ عنهُم وكانَ اللهُ عَفُوَّاً غفورا).(النساء/ 99)
لتلازم هذه الصفات وارتباط بعضهاببعض.
فصفة المغفرة قائمة على العفو متوقفة على القدرة.
وباتصافه سبحانه بالقدرة على العفو عما يريد العفو عنه تشخصت التوبة حقيقة في عالم الاثار،ونظما في دنيا الانسان،كظل لصفة العفو والقدرة،و أثر موصول لها في حياة الانسان.
ثالثاً: اتصافه سبحانه باللطف.
واللطف الالهي: هو الرفق بالعباد والرقة عليهم.
ويتجلى هذا اللطف الالهي في تيسير الله لكل ما من شأنه أن يقرب العباد من الطاعة، ويبعدهم عن المعصية;تحننا عليهم،ورفقا بهم;فهو لايكلفهم فوق طاقتهم، ولايسد أمامهم أبواب الرجوع إليه بعد التمرد عليه، لئلا تكون نهاية شوطهم في هاوية العذاب والبعد عنه سبحانه.
لذا كانت التوبة مظهراً من مظاهر تجلي اللطف،وحالة من حالات ظهوره في دنيا الانسان.
قال تعالى
واْذكُرْنَ ما يُتلى في بيوتِكُنَّ من آياتِ اللهِ والحِكمةِ إنَّ اللهَ كان لطيفاً خبيرا). (الاحزاب/ 34)
وقد أورد القرآن الكريم صفة اللطف في سبع مواضع مختلفة من موارده;جاءت منها صفة اللطف هذه مقترنة في خمس مواضع بصفة(خبير)،لوجود العلاقة الذاتية بين صفتي اللطف والخبرة;لان الذي يتصف باللطف وهو الخفاء وعدم الظهور للحواس لتنزهه عن الكثافة والتحيز المكاني والزماني،لايخفى عليه شيء; لارتفاع الحدود،ولسريان وجوده واحاطته بكل شيء بسبب لطافته، فيكون خبيرا بالامور لاطلاعه عليها،واحاطته بها،وحضورها لديه جميعا.
وهو سبحانه مطلع على ما في نفس الانسان من ضعف و عجز يحولان دون احتفاظه بخط الاستقامة في كل ما يصدر عنه، قال تعالى:
(اَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هوَ اللطيفُ الخبير).(الملك/ 14)
فالانسان بطبيعة تكوينه معرَّض للخروج على هذا الخط السلوكي المستقيم، وهو أيضاً كثيراً ما يحب العودة، ويتوق إلى الاستقامة، ليندمج مرة اخرى في عالم الخير والنقاء.
ولكي يتمكن من ذلك فانه يحتاج الى السماح والعفو، لتُقبل عودته، وترضى توبته.. فكان لطف الله ـ أي رفقه ورقته ـ هو الشفيع للانسان لقبول العودة، لانَ الله سبحانه يريد قرب العبد منه، ويحب أن يراه حقيقة تتطابق مع ارادة خالقه ورضاه سبحانه.
قال تعالى:
(... إن اللهَ يحبُّ التوَّابين ويحبُّ المُتَطَهِّرين).(البقرة/ 222)
لذا كانت التوبة وكان العفو الالهي الجميل.
رابعاً: اتصافه سبحانه بالود والرحمة:
والود هو المحبة.
والرحمة: هي رقة تقتضي الاحسان الى المرحوم.
والله سبحانه لم يصف ذاته المقدسة بصفة مكررة و مؤكد عليها كوصفه نفسه بالرحمة; حتّى ان صفة الرحمة استعملها القرآن الكريم بصورة معادلة لصفة الالوهية عندما أجاز اطلاق اسم (الرحمن) على الذات الالهية بدلا من تسمية الذات المقدسة بـ (الله) واعتبرها كافية لمناجاة ذاته المقدسة لتمام دلالتها عليه، فقال تعالى:
(قُل ادعُوااللهَ أوادعُوا الرحمنَ أياًما تَدْعُوا فَلهُ الاسماءُ الحُسْنى...)(الاسراء - 110)
فكلا اللفظين(الله)أو(الرحمن)يدل على الذات المتصفة بالصفات الحسنى،وان أثر هذه الصفة الربانية في حياة الانسان لعظيم;لانها المنبع الازلي لافاضة أحاسيس الامان والطمأنينة و السلام، والمصدر لبعث الامل و الرجاء في استمرار الرابطة بين الله وخلقه في نفس الانسان.
و هي وعاء صفات القرب التي تستوعب معاني الحب والود و المغفرة و الاحسان و السلام ..الخ.
وهي الوصل الذي يردم فجوة البعد و النفور،ويحذف الجفوة والصدود بين الانسان وخالقه.
وهي التي تهيء الاستعداد النفسي لدى الانسان لاشادة علاقته الوديه الامنة مع الله سبحانه.
وهي التي تضفي على شعور الانسان جواًمن الانس والطمأنينة حتى يتملكه الاحساس بالغبطة و الحماية من الوقوع تحت صفة الغضب و الجبروت والانتقام: (...وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عليكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى منكُمْ مِنْ أحَد أبَداً...). (النور/ 21)
(واستَغْفِروا ربَّكُمْ ثُمَّ تُوبوا إليه إنَّ ربّي رَحيمٌ وَدُود )(هود/ 90)
(وَقُلْ ربِّي اغفرْ وارحمْ وأنتَ خيرُ الراحمين).(المؤمنون/ 118)
(والهكُم الهٌ واحدٌ لا إله الا هُوَ الرحمنُ الرَّحيم).(البقرة/ 163)
وهكذا تشخص العلاقة بين الله وخلقه كما أرادها سبحانه أن تكون قائمة على اساس الرحمة واللطف والودّ والمغفرة والعفو والحلم والستر،ليحيى الانسان وقلبه عامر بالطمأنينة والحب والسلام،ونفسه يملؤها الامل والرجاءوانتظارالاحسان من رب يتصف بصفات الودوالحب هذه.
من هنا كان قبول التوبة أملا يراود قلب الانسان، ورجاء يعيش في نفسه كنتيجة منتظرة لهذة العلاقة الحبيبة بين الله وخلقه.
ولقد كان هذا الامل حقيقة، والرجاء واقعاً; يتجسدان في ظل صفات الله الرحمانية المقدسة:
(قُلْ ياعِباديَ الذينَ أسْرَفُوا على أنفُسِهِم لاتَقْنَطُوا مَنْ رَحمَةِ اللهِ إنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُنوبَ جميعاً إنَّه هُوَ الغَفُورُ الرَّحيم).(الزمر/ 53)
فباب التوبة مفتوح، وحبلها ممدود; فهي كما وصفها الامام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): (التوبة حبل الله ومدد عنايته).