حين ضاق فرعون ببني إسرائيل وأنكر خبث أفاعيلهم وضراوة شرهم , فأذلهم واستعبدهم و راح يسومهم سوء العذاب .....
ويُقال إنه رأي في منامه رؤيا أفزعته ((فدعا الكهنه والسحره والمعبرين والمنجمين , فسألهم تأويل رؤياه فقالوا : يولد في بني إسرائيل غلام يسلبك الملك ويغلب علي سلطانك . ويخرجك وقومك من أرضك ويبدل دينك وقد أظلّك زمانه الذي يولد فيه))
فجُن جنونه وغضِب .... وأمر بقتل كل غلام يولد لبني إسرائيل , وجَنَّدَ لذلك كل القوابل من النساء في أنحاء المملكه ..........
ووُلِدَ ((موسي)) خفيه , بعد أن ذبح ((ســـــبــــــعـــــــيــــــــن ألـــــــــــــف ولـــــــــــد))
فارتجفت أمه رعباً وجزعاً , وأشفقت عليها القابله ((الدايـــه)) فوعدتها أن تكتم الأمر.
ولكن ماكادت القابله تنصرف من عند أم موسي حتي أبصرتها عيون فرعون التي بثَّها في كل مكان , فاندفعوا يقتحمون الدار وكادوا يظفرون بالوليد لولا أن لمحتهم أخت موسي ((مريم)) فهمست إلي أمها جازعه : أماه هذا الحرس بالباب...
وفي ذهول المفاجأه , ألهَم الله أم موسي فلفَّت ولدها في خرقه وألقته في جوف التنور , دون أن تشعر بما تفعل , فلم تكد تودعه هناك حتي دخل الحراس , فلم يجدوا سوي الأم بادية السكينه والإطمئنان , وإلي جانبها ابنتها تعني بشؤون الدار في جد وهدوء...
وسألوها في فظاظه : ماأدخل عليك هذه القابله؟؟
أجابت من غير أن تزايلها سكينتها : هي مصافيه لي , دخلت علي زائره....
فانصرفوا , ودارت عينا الأم تبحثان عن ولدها , فإذا صوته ينبعث من التنور , فهرعت إليه وأخرجته ولم يمسسه أذي بفضل الله تعالي .
وبدا واضحاً أن إخفاء الطفل في التنور ليس بحلٍ دائم , وأطرقت الأم مهمومه تفكر , فأوحي إليها ربها ((أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدوٌ لي وعدوٌ له))
واستجابت الأم لـــوحي السماء ,فاتخذت تابوتاً وجعلت فيه قطناً ,ثم أرضعت وليدها وأرقدته في التابوت وأحكمت عليه الغطاء وألقت به في النيل...
كيف كان شعورها إذ ذاك وهي تسلم فلذة كبدها بيدها إلي النهر وقد تعلقت عيناها بالتابوت الذي يضم الصغير الحبيب , تتقاذفه الأمواج وتمضي به بعيداً ؟؟؟؟؟؟؟؟
ولكن أنزل الله سكينته علي قلبها ((وأصبح فؤاد أم موسي فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا علي قلبها لتكون من المؤمنين))
مضت الأمواج بــموسي حتي انتهت به إلي روضه عند قصر فرعون , وكانت هذه الروضه مستقي لــجواريه فلما لـــمــحــن التابوت حتي التقطنه وانطلقن به إلي سيدتهن ((آســــيــــه : زوجة فرعون) واعتقدن أن به كنزاً من مال وجواهر...
ثم فتحن الصندوق , فإذا الصغير الجميل يرفع إلي ((آســـيـــه))وجها مشرقا بإبتسامه حلوه....
ولم يكن لها ولد , فما أروعها هديه تقدمها السماء إلي أمومتها المحرومه...
فقالت لجواريها : دعوا أمره لي , فأنا آتي فرعون وأستوهبه إياه , فإن فعل كنتم قد أحسنتم , وإن أمركم بذبحه فلن ألومكم ....
وذهبت الي فرعون وتوسلت اليه قائله : ((قرة عين لي ولك , لاتقتلوه عسي أن ينفعنا أو نتخذه ولدا))
فكان جوابه عليها : قرة عين لك , أما أنا فلا حاجة لي فيه...
ثم استدرك بعد لحظه وقال لها : لا بل فليُذبح , فإني أخاف ان يكون هذا الطفل من بني إسرائيل , وأن يكون هو الذي هلاكُنا وزوال ملكِنا علي يده...
فــــلـــم تـــزل امـــرأتـــه تـــكــلــمــه وتـــرجـــوه , حــتي وهــبــه لــها , وعــادت بــه إلــي جــنــاحــها , والــدنــيا لاتــســعـها مـــن فــــرط فـــرحـــتــها...
وهنالك في الحي اليهودي , كانت ((أم موسي)) تضع يدها علي قلبها الذي مافتئ يخفق مُلحاً في طلب فلذة كبدها الغالي...
فقال لأخته : قُّــــــصــيــــه وتتبعي أثره , هل تسمعين له ذكرا؟؟
فخرجت ((مريم)) تلتمس أثر أخيها , وسارت بحذاء النهر حتي حملتها قدماها إلي قريب من قصر الفرعون , لتسمع هناك أن ربة القصر تبنت غلاماً رضيعاً , يأبي المــــــراضــــع...
وحدثها قلبها أنه هو , فظلت تحوم حول القصر , حتي رأت جواري امرأة فرعون يخرجن في التماس المراضع لعله يقبل الرضاع من إحداهن...
هنالك انطلقت ((مريم)) الي القصر وقالت لهن في حذر : ((هل أدلكم علي أهل بيت يكفلونه لكموهم له ناصحون))
فــــــــــــراب الحرس مما سمعوا فسألوها : مانــــراك إلا تــــخـــفــــيـــن أمراً؟؟؟
فأجابت في ثبات : بل أردت أن أنصح لكم ...
قـــالــــوا : لعلك تعرفين أهله , وإلا فما يدريك أنهم له ناصحون ؟؟؟
فقالت : الأمر أبسط مما تظنون فـــكل ماهنالك اني أعرف فيهم الرحمه وطيب القلب , وماأشك في أنهم يرحبون بحضانة الصغير شفقةً عليه , وتقرباً إلي الملك , وإلتماساً لــــبـــره ....
وتبعوها إلي حيث كانت ((أم موسي))تجتر همومها ...
ودخلوا عليها به ..فـــــلــــمـــحــــتـــه , فأمسكت صيحة فرح كادت تنطلق من أعماق قلبها .. وأقبلت علي الرضيع متجلده متماسكه , فضمته إلي صدرها برفق .. وبالفعل قَـــبِــل موسي أن يرضع منها ...
فما كان أشد عجب القوم الذين عرفوا رفض ((موسي)) للمراضع جميعاً إذ رأوه يرتضع منها في لهفة الظامئ
ورضع حتي ارتوي , وعاد رسل ((آسيه : امرأة فرعون)) إليها يصحبون ((موسي)) وأمه ويقصون عليها مارأوا من أمر فرعون مع هذه السيده ...
فقال لها آسيه : هلا مكثتِ عندي لترضعي ابني هذا الحبيب؟
فأجابت الأم : بل ان شئتِ ياسيدتي صحبتُه معي إلي بيتي أرضعه وأرعاه , فإني أخشي إن أنا هجرت بيتي وأولادي ضاعوا ... ولست بتاركتهم أبدااااا.
_وقد يبدو عجيبا لنا موقف أم موسي ولكنها أدركت أنها هنا هي سيدة الموقف وخصوصا عندما شعرت بتعلق قلب امرأة فرعون بالطفل
ولو أنها وافقت علي الإقامه بالقصر لكانت بين أمرين .. أحلاهما مُــــــر :
الأمر الأول : إما أنها تكبت عاطفتها الظمأي وأشواق أمومتها , كي لايرتاب القوم في أمرها , وذلك ما لا طاقة لأمومتها به بعد الذي كان من وجدها عليه...
الأمر الثاني : وإما أن تترك نفسها علي سجيتها , فتدفع ولدها إلي المذبحه ...
_وبالفعل لم تجد ((امراة فرعون)) مفراً من إجابة طلبها , حرصأ علي حياة الصــغــيـر
فأذنت لها فرجعت به إلي بيتها ....