التربية العبادية والايمانية
يتحدث القرآن الكريم في العديد من آياته عن علاقة الموجودات العبادية بالله سبحانه، والارتباط العبودي بينه وبين الخلائق كلها، فيؤكد أن هذه العلاقة حقيقة تنظم الوجود بأسره: الطبيعة والحيوان والنبات والانسان، فكل شيء في هذا العالم متجه الى بارئه وسائر اليه بتشوق وعشق تكاملي. وشاهد له بالوحدانية والربوبية، ومعبّر بوجوده عن العبودية.
ويقرر القرآن هذا المبدأ، مبدأ العبادة والتسبيح والصلاة في العوالم كلّها فيقول:
(ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والارض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون). (النور/41)
(ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات والارض والشمس والقمر والنجوم والجبال والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فماله من مكرم ان الله يفعل مايشاء) (الحج/18)
ويؤكد القرآن في موارد أخرى أن العبادة هي غاية الخلق وسر الوجود البشري فيقول: (وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون).
وحين يتحدث عن مبدأ خلق الانسان وتكوين وجوده يؤكد أن الانسان فُطر على التوحيد وكوّن على الاتجاه الى بارئه، قال تعالى:
(فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لايعلمون).
ثم أوضح الامام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) معنى هذه الاية فقال: (فطَرهم على التوحيد).(25)
وروي عن الامام الباقر (عليه السلام) عن النبي قوله: (كل مولود يولد على الفطرة).
ثم فسرّ هذا القول النبوي بقوله: (يعني على المعرفة بان الله خالقه)(26).
ويروي الامام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) ان موسى بن عمران قال في مناجاته لرب العزة: (يارب أي الاعمال أفضل عندك؟ فقال: حب الاطفال، فان فطرتهم على توحيدي، فان أمتهم أدخلهم برحمتي بجنتي)(27).
إن دراسة تحليلية لمضمون هذا النص وأفكاره لاتشرح أثر الحب الابوي المتطبع في نفس الطفل وحسب، بل وتوضح الاثر النفسي المنطبع في نفس الاب المحبّ.
فحب الطفل ببراءته ونقاء فطرته يشيع في النفس حب الفطرة والنقاء والبراءة، وبذا يعكس الحب أثره التربوي في نفس الطفل والاب معاً.
وجاء في الحديث النبوي الشريف أن كل طفل يولد على الفطرة، إنما البيئة التربوية هي التي تغير اتجاهه في الحياة... فقد روي عنه قوله(صلى الله عليه وآله): (مامن مولود يولد الا على هذه الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه)(28)، ولذا أكد الاسلام أهمية التربية ومسؤوليتها في الحفاظ على النقاء وبراءة الفطرة واستقامتها.
ومن هنا تبدأ عملية التربية وهي المحافظة على نقاء الفطرة وحمايتها من التلوث والانحراف في النفس البشرية كما أوضحنا آنفاً، لانّها نقية طاهرة من التعقيد والانحرافات، فمسؤولية المربي إذن هي تنشئة الفطرة على استقامتها ونقائها، والاخذ بيد الطفل ليسير سيراً أميناً نحو بارئه...فالطفل مثلا يولد في أحضان الطبيعة والطبيعة مليئة باثارات الجمال والاستهواء والغرابة بالنسبة له... فهو يشاهد السماء والشمس والقمر والنجوم والغيوم والامطار والاشجار والبحار والانهار والوان الازهار والثمار. وحين يبدأ وعيه بالتفتح يريد أن يفهم العالم فهماً عقلياً فيسأل ابويه أو اخوته الكبار أو معلمه: كيف تكونت تلك الموجودات؟ ومن خلقها...؟ ويريد أن يفهم الاشياء على أساس ربطها بعللها وأسبابها.
وعلى الابوين والمربين أن يجيبوا عن أسئلة الطفل إجابة تتناسب ووعيه، مستعينين بالمثل المبسط للتعريف بالاشياء المحسوسة لديه كاللعب والصور، كيف صنعها الصانع، أو صورها الفنان، للتعريف بخالق الوجود، أو تكوين رابطة نفسية بين الطفل ومظاهر الطبيعة الموصلة الى الخالق العظيم. لتكون تلك الاجابات إيضاحاً لعلاقته بخالق الوجود وأساساً لاثارة الاحساس بالفضل والاحسان الالهي، أو تدريبه على اداء الشكر، منطلقين معه بضرب الامثلة الحسّية الدّالة على وجوب شكر من يصنع المعروف، ويهب لنا الاحسان.
ولتكن البداية من إشعاره باحسان الابوين المحسوس لديه واستحقاقهما للشكر، ليكون هذا الاحسان أساساً للقياس، واثارة مشاعر الشكر والحب لله سبحانه.
والطفل في مراحل حياته الاولى يملك قدرة عالية على التلقي والتقبل.. وواجب الابوين والمربين أن يقدموا له المعلومات العبادية: كتعليم الصلاة وتحفيظ الاناشيد والقصص التي تزرع في نفسه معاني الايمان والارتباط بالله سبحانه وتشعره بصفات الله من: العدل والرحمة وعقاب المجرمين وقدرته على الخلق والاحياء..الخ.
وجرياً على القواعد النفسية فان الظروف والاجواء التي تصاحب عملية تدريب الطفل على العبادة تشكل مثيراً ومنبهاً يقترن بأدائها; لذا فان توفير أجواء السرور والمحبة والتشجيع للطفل بالثناء على عمله أو تقديم الهدايا له، أو التقاط صورة ملونة له، وهو في حال الصلاة..الخ يثير السرور في نفسه، ويجعل من العبادة عملا محبباً لديه يترسخ في الوعي الباطني بعكس الاسلوب القاسي، واستخدام الاكراه والتشديد على الطفل، فانه يشكل حالة من الرفض الداخلي، وعدم الاقبال على العبادة.
وتوظيف الفن السينمائي والفلم والصور في تعليم العبادات وتقديمها بشكل إيحائي أو صريح اسلوب ناجح من اساليب التربية العبادية. فهي أعمق أثراً من التلقي اللفظي المجرد، وأكثر تقبلا لديه.
والتدريب العملي المشفوع بالحب والعناية من الابوين للطفل، كاصطحابه الى المسجد وصلاة الجماعة وصلاة العيد، له عميق الاثر في نفسه وعلاقته بالعمل العبادي.
لذا جاء الحث على تعليم الطفل والصبي القرآن والاحكام والعبادات بشكل تدريجي. فقد روى الصادق عن النبي (صلى الله عليه وآله) قوله: (... ومن علّمه القرآن دعي بالابوين فكسيا حلتين تضيء من نورهما وجوه أهل الجنة).
ويثبت الامام الصادق منهج التربية العبادية للصبي والناشيء وتعليمهم مبادي الشريعة بقوله: (ويتعلم الكتاب سبع سنين ويتعلم الحلال والحرام سبع سنين).
وورد عنه (صلى الله عليه وآله): (علموا صبيانكم الصلاة، وخذوهم بها اذا بلغوا الحلم)(29).
وروي عن الامام علي بن الحسين السجاد (عليه السلام) أنه كان يدرب صبيانه بشكل تدريجي على الصلاة حتى لاتثقل عليهم
انه كان يأخذ من عنده من الصبيان بأن يصلوا الظهر والعصر في وقت واحد، والمغرب والعشاء في وقت واحد، فقيل له في ذلك. فقال: هو أخف عليهم، وأجدر ان يسارعوا اليها، ولايضيعوها ولايناموا عنها، ولايشتغلوا، وكان لايأخذهم بغير الصلاة المكتوبة ويقول: اذا طاقوا الصلاة، فلا تؤخروها عن المكتوبة)(30)